الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قَالَ الألوسي: وَتَقْدِيمُ خِطَابِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَوْضِعَيْنِ قِيلَ: لِلتَّشْرِيفِ لَهُ- عَلَيْهِ أَشْرَفُ الصَّلَاةِ وَأَفْضَلُ السَّلَامِ- وَإِلَّا كَانَ الظَّاهِرُ: وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِكَ مِنْ شَيْءٍ، بِتَقْدِيمِ عَلَى وَمَجْرُورِهَا كَمَا فِي الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: إِنَّ تَقْدِيمَ عَلَيْكَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى لِلْقَصْدِ إِلَى إِيرَادِ النَّفْيِ عَلَى اخْتِصَاصِ حِسَابِهِمْ بِهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ هُوَ الدَّاعِي إِلَى تَصَدِّيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحِسَابِهِمْ. اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّ التَّقْدِيمَ فِي الْمَوْضُوعَيْنِ جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ الْعَامِّ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ بِحَسَبِ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَالْأَهَمُّ فِي الْأَوَّلِ النَّفْيُ، وَفِي الثَّانِي الْمَنْفِيِّ، أَعْنِي الْأَهَمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صلى الله عليه وسلم. لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِانْتِفَاءِ عَمَلٍ لَهُ (وَهُوَ الطَّرْدُ) مُتَرَتِّبٌ عَلَى ذَلِكَ النَّفْيِ، وَلَوْ كَانَ الثَّانِي تَعْلِيلًا لِعَمَلٍ لَهُمْ لَقَالَ: وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ حِسَابِكَ مِنْ شَيْءٍ فَيَطْرُدُوكَ، وَمَا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَتَيْنِ يُغْنِي عَنِ التَّفْصِيلِ فِي بَيَانِ هَذَا الْمَعْنَى.وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الرِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ فِي الْمِلَلِ الْأُخْرَى، وَهِيَ سَيْطَرَةُ رُؤَسَاءِ الدِّينِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ فِي عَقَائِدِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَمُحَاسَبَتِهِمْ عَلَيْهَا، وَعُقَابُ مَنْ يَرَوْنَ عِقَابَهُ مِنْهُمْ حَتَّى بِالطَّرْدِ مِنَ الدِّينِ وَالْحِرْمَانِ مِنْ حُقُوقِهِ، وَيَجِبُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمِلَلِ أَنْ يَعْتَرِفَ كُلُّ مُكَلَّفٍ مَنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى لِلرَّئِيسِ الدِّينِيِّ بِأَعْمَالِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَلِلرَّئِيسِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا يَعْتَرِفُ بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَغْفِرَةَ اللهِ تَعَالَى تَتْبَعُ مَغْفِرَتِهِ، وَإِذَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لِلرَّسُولِ الَّذِي أَوْجَبَ طَاعَتَهُ حَقَّ مُحَاسَبَةِ النَّاسِ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَنِيَّتِهِمْ فِيهَا، وَلَا حَقَّ طَرْدِهِمْ مِنْ حَضْرَتِهِ- دَعْ حَقَّ طَرْدِهِمْ مِنَ الدِّينِ- فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ دُونَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ أَوِ الْقَضَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ مِثْلُ هَذَا الْحَقِّ؟! وَيُسْتَنْبَطُ مِنَ الْآيَةِ أَلَّا يَجُوزَ لِرُؤَسَاءِ الْمَدَارِسِ الدِّينِيَّةِ وَلَا يَنْبَغِيَ لِغَيْرِهِمْ- عِقَابُ أَحَدٍ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ بِالْحِرْمَانِ مِنْ بَعْضِ الدُّرُوسِ فَضْلًا عَنْ طَرْدِهِ مِنَ الْمَدْرَسَةِ، وَحِرْمَانِهِ مَنْ تَلَقِّي الدِّينِ وَالْعِلْمِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنْ قَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى نِظَامٍ لَا لِأَجْلِ الِانْتِقَامِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم تَأْلِيفُ قُلُوبٍ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ حَتَّى بَعْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِعْزَازِهِ، بَلْ كَانَ يُعَامِلُ الْمُنَافِقِينَ بِمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ إِسْلَامِهِمْ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّوَاهِرِ، وَأَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ طَرْدِ كَمَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقَيْنِ الْأَوَّلِينَ، الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَظٌّ دُنْيَوِيٌّ مِنْ إِسْلَامِهِمْ إِلَّا الصَّبْرُ وَالْبَلَاءُ الْمُبِينُ؟.{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أَيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ الْفِتَنُ- أَيِ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ الْعَظِيمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ النَّظْمُ الْكَرِيمُ بِمَعُونَةِ وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ، وَمَا كَانَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، أَيْ جَعَلْنَا- بِحَسَبِ سُنَّتِنَا فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ- بَعْضَهُمْ فِتْنَةً لِبَعْضٍ تَظْهَرُ بِهِ حَقِيقَةُ حَالِهِ غَيْرَ مَشُوبَةٍ بِشَيْءٍ مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَلْتَبِسُ بِهَا فِي الْعَادَةِ، كَمَا يَظْهَرُ لِلصَّائِغِ حَقِيقَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ يَفْتِنُهُمَا بِالنَّارِ أَوْ بِعَرْضِهِمَا عَلَى الْفَتَّانَةِ (حَجَرُ الصَّائِغِ) {لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} أَيْ لِيَتَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الْفَتْنِ أَنْ يَقُولَ الْمَفْتُونُونَ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، فِي شَأْنِ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: أَهَؤُلَاءِ الصَّعَالِيكُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْمَوَالِي وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ فَخَصَّهُمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ جُمْلَتِنَا وَمَجْمُوعِنَا أَوْ مِنْ دُونِنَا؟ الْمَنُّ: الْإِثْقَالُ بِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ أَوْ نِعَمٍ كَثِيرَةٍ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ، يَعْنُونَ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُفَضَّلُونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِمَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الْغِنَى وَالثَّرْوَةِ وَالْجَاهِ وَالْقُوَّةِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا الدِّينُ خَيْرًا لَمَنْحَهُمْ إِيَّاهُ دُونَ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ، قِيَاسًا عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ قَبْلَهُ مِنَ الْجَاهِ وَالثَّرَاءِ، وَمِنْ شَوَاهِدِ هَذَا الْقِيَاسِ مَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [43: 31] إِلَخْ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَيْ عَظِيمٍ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ كَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ مِنْ مَكَّةَ وَهِيَ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ، أَوْ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ مِنَ الطَّائِفِ وَهِيَ الْقَرْيَةُ الْأُخْرَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِعَظِيمِ مَكَّةَ أَبُو جَهْلٍ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ الْحَمْلِيِّ كَثِيرَةٌ عَنْهُمْ وَعَنْ غَيْرِهِمْ.وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ التَّقْرِيرِيُّ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ لِبِنَائِهِ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى، وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ الْحَقِيقِيَّ بِمَنِّ اللهِ وَزِيَادَةِ نِعَمِهِ إِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ يُقَدِّرُونَهَا قَدْرَهَا، وَيَعْرِفُونَ حَقَّ الْمُنْعِمِ بِهَا، فَيَشْكُرُونَهَا لَهُ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا تَتِمُّ بِهِ حِكْمَتُهُ وَتُنَالُ مَرْضَاتُهُ- لَا مَنْ سَبَقَ إِنْعَامُهُ عَلَيْهِمْ فَكَفَرُوا وَبَطَرُوا، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِهِ، وَاسْتَكْبَرُوا بَلْ هَؤُلَاءِ جَدِيرُونَ بِأَنْ يَسْلُبَ مِنْهُمْ مَا كَانَ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَبِهَذَا مَضَتْ سُنَّتُهُ فِي عِبَادِهِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتِ النِّعَمُ خَالِدَةً تَالِدَةً لَا تُنْزَعُ مِمَّنْ أُوتِيهَا، بَلْ تُزَادُ وَتُضَاعَفُ لَهُ وَإِنْ كَفَرَ بِهَا، وَإِذًا لَمَا افْتَقَرَ غَنِيٌّ، وَلَا ضَعُفَ قَوِيٌّ، وَلَا ذَلَّ عَزِيزٌ وَلَا ثُلَّ عَرْشُ أَمِيرٍ، وَهَلِ الْحَقُّ الْوَاقِعُ إِلَّا خِلَافَ هَذَا؟ وَهَلْ فُتِنَ أُولَئِكَ الْكُبَرَاءُ إِلَّا بِالْوَاقِعِ لَهُمْ مِنَ الْغِنَى وَالْقُوَّةِ، فَظَنُّوا لِقِصَرِ نَظَرِهِمْ، وَغُرُورِهِمْ بِحَاضِرِهِمْ، وَجَهْلِهِمْ بِسُنَّةِ اللهِ فِي أَمْثَالِهِمْ- أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَعْطَاهُمْ ذَلِكَ إِلَّا تَكْرِيمًا لِذَوَاتِهِمْ، وَتَفْضِيلًا لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَحْسَبُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ لَهُ عَلَى رَبِّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ، كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [41: 50] وَأَنْزَلَ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ طُغَاةِ قُرَيْشٍ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [19: 77] أَيْ فِي الْآخِرَةِ- الْآيَاتِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ بِهَذَا الْقِيَاسِ:لَقَدْ أَحْسَنَ اللهُ فِيمَا مَضَى كَذَلِكَ يُحْسِنُ فِيمَا بَقِيَ.وَقَدْ كَشَفَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الْغُرُورَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَضَرَبَ لِأَصْحَابِهِ الْأَمْثَالَ كَمَثَلِ ذِي الْجَنَّتَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، وَزَجَرَ أَهْلَهُ وَأَضْدَادَهُمْ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ، وَفَصَّلَ لَهُمُ الْحَقِيقَةَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، بِقَوْلِهِ: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ} [17: 20].وَهَذَا الرَّدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدُومُ لَهُمْ مِنَ النِّعَمِ، مَا اغْتَرُّوا بِهِ، وَلَا يَبْقَى الْمُؤْمِنُونَ عَلَى الضَّعْفِ الَّذِي صَبَرُوا عَلَيْهِ، بَلْ لابد أَنْ تَنْعَكِسَ الْحَالُ، فَيُسْلَبُ أُولَئِكَ الْأَقْوِيَاءُ مَا أُعْطُوا مِنَ الْقُوَّةِ وَالْمَالِ، وَتَدُولُ الدَّوْلَةُ لِهَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُوا هُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى وَفَّقَهُمْ لِلْإِيمَانِ، وَأَوْدَعَ فِي أَنْفُسِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلشُّكْرِ وَهُوَ يُوجِبُ الْمَزِيدَ {وَإِذْ تَأْذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [14: 76] وَكَذَلِكَ كَانَ، وَصَدَقَ وَعْدُ الرَّحْمَنِ وَظَهَرَ إِعْجَازُ الْقُرْآنِ، وَمَا بَعْدَ بَيَانِ اللهِ تَعَالَى مِنْ بَيَانٍ، وَإِنَّنَا نَرَى النَّاسَ عَنْ هِدَايَتِهِ غَافِلِينَ، وَبِوُجُوهِ إِعْجَازِهِ جَاهِلِينَ، حَتَّى إِنَّ فِيمَنْ يُسَمَّوْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَنْ يَفْتَتِنُ بِشُبْهَةِ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الدَّاحِضَةِ، فَيَجْعَلُهَا حُجَّةً نَاهِضَةً؛ تَارَةً عَلَى تَفْضِيلِ الْأَغْنِيَاءِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَتَارَةً عَلَى تَفْضِيلِ الْأُمَمِ الْقَوِيَّةِ عَلَى الْأُمَمِ الضَّعِيفَةِ، جَاهِلِينَ أَنَّ الْفَضِيلَةَ الصَّحِيحَةَ فِي شُكْرِ النِّعَمِ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يُرْضِي الرَّبَّ لَا فِي أَعْيَانِ النِّعَمِ الَّتِي تُرَى فِي الْيَدِ. فَرُبَّ غَنِيٍّ شَاكِرٌ، وَرَبَّ فَقِيرٍ صَابِرٌ، وَكَمْ مِنْ مُنَعَّمٍ سُلِبَ النِّعْمَةَ بِكُفْرِهَا، وَكَمْ مِنْ مَحْرُومٍ أُوتِيَ النِّعَمَ بِالِاسْتِعْدَادِ لِشُكْرِهَا، ثُمَّ زِيدَتْ بِقَدْرِ شُكْرِهِ لَهَا، وَكَمْ مِنْ قَوِيٍّ أَضْعَفَهُ اللهُ بِبَغْيِهِ، وَكَمْ مِنْ ذَلِيلٍ أَعَزَّهُ اللهُ بِإِيمَانِهِ وَعَدْلِهِ.هَذَا وَإِنَّ ظَاهِرَ حِكَايَةِ قَوْلِ الْمَفْتُونِينَ يَدُلُّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} فَتَنَّا كُبَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ- أَيِ اخْتَبَرْنَا بِهِ حَالَهُمْ فِي كَوْنِ تَرْكِهِمْ لِلْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا جُحُودًا نَاشِئًا عَنِ الْكِبْرِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ، لَا عَنْ حُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ مِمَّا يُظْهِرُونَهُ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ لَمْ يَفْتَتِنُوا بِغِنَى كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَقُوَّتِهِمْ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ فُتِنُوا وَإِنْ لَمْ تُبَيِّنِ الْآيَةُ كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ، إِذْ لَمْ تَحْكِ شَيْئًا عَنْ لِسَانِهِمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الِاخْتِبَارِ الْعَامِّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [25: 20] أَيْ جَعَلْنَا كُلًّا مِنْكُمُ اخْتِبَارًا لِلْآخَرِ فِي اخْتِلَافِ حَالِهِ مَعَهُ بِالْغِنَى وَالْفَقْرِ، أَوِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، أَوِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، أَوِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ- هَذَا يَحْتَقِرُ هَذَا وَيَبْغِي عَلَيْهِ، وَهَذَا يَحْسُدُ هَذَا وَيَكِيدُ لَهُ. فَاصْبِرُوا فَإِنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ هَذِهِ الْفِتَنِ إِلَّا الصَّابِرُونَ. نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الصَّابِرِينَ الشَّاكِرِينَ.{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}.هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتَمِّمَتَانِ لِلسِّيَاقِ فِيمَا قَبْلَهُمَا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِرْشَادِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي سِيَاسَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَبَعْدَ أَنْ نَهَاهُ رَبُّهُ عَنْ طَرْدِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْهُمْ مِنْ حَضْرَتِهِ اسْتِمَالَةً لِكُبَرَاءَ الْمُتَكَبِّرِينَ مِنْ قَوْمِهِ، وَطَمَعًا فِي إِقْبَالِهِمْ عَلَيْهِ وَسَمَاعِهِمْ لِدَعْوَتِهِ وَإِيمَانِهِمْ بِهِ- كَمَا اقْتَرَحَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ- أَمَرَهُ بِأَنْ يَلْقَاهُمْ كَسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ وَالتَّبْشِيرِ بِرَحْمَةِ اللهِ وَمَغْفِرَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَيَّنِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سَبَبُ نُزُولِ {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ اسْتَحْسَنَ إِجَابَةَ أَشْرَافِ الْكُفَّارِ إِلَى اقْتِرَاحِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ فِي ذَلِكَ أَقْبَلَ فَاعْتَذَرَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَبُولِ اعْتِذَارِهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الرِّوَايَةَ ضَعِيفَةً، وَأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِيهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَأَنَّ رِوَايَاتِ نُزُولِ الْأَنْعَامِ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَقْوَى مِنْهَا، وَهِيَ مُعَارِضَةٌ لَهَا. وَالْآنَ رَأَيْتُ فِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ لِلرَّازِيِّ اسْتِشْكَالَ هَذَا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّحْقِيقُ فِي مَسْأَلَةِ نُزُولِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَفِي زِيَادَةِ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، وَيُعَارِضُهُ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ جُلُّ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنْ مَاهَانَ قَالَ: أَتَى قَوْمٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: إِنَّا أَصَبْنَا ذُنُوبًا عِظَامًا، فَمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَانْصَرَفُوا، فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} الْآيَةَ فَدَعَاهُمْ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ مِنْ مَرَاسِيلِ مَاهَانَ، لَا يُحْتَجُّ بِهَا، وَلَيْسَتْ صَرِيحَةً كَرِوَايَةِ عِكْرِمَةَ فِي مُعَارَضَةِ نُزُولِ السُّورَةِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، إِذْ يُجِيزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَلَاهَا عَلَى مَنْ سَأَلُوهُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ عِنْدَ نُزُولِهَا فِي ضِمْنِ السُّورَةِ، وَمِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُعَامَلَةِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَا فِي عُمَرَ وَحْدَهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ، وَلَا فِيمَنْ سَأَلُوهُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ كَمَا فِي رِوَايَةِ مَاهَانَ- وَإِنْ فَرَضْنَا صِحَّةَ الرِّوَايَتَيْنِ- وَلَا فِيمَنْ نُهِيَ عَنْ طَرْدِهِمْ خَاصَّةً كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، بَلْ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ اقْتُرِحَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم طَرْدُهُمْ فَيَدْخُلُونَ فِيهَا بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَهَذَا مَا تُفْهِمُهُ عِبَارَتُهَا، وَمَا سِوَاهُ فَمُتَكَلَّفٌ لِتَطْبِيقِهِ عَلَى الرِّوَايَاتِ.وَبَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيَانِ مَعْنَى الْآيَةِ وَمُرَاجَعَةِ الْمُصْحَفِ الشَّرِيفِ فِيهَا وَفِيمَا قَبْلَهَا، كَانَ أَوَّلُ مَا تَبَادَرَ إِلَى ذِهْنِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ يُؤْمِنُونَ بِالْآيَاتِ هُنَا هُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ آنًا بَعْدَ آنٍ، عَنْ بَيِّنَةٍ وَبُرْهَانٍ، لَا مَنْ آمَنُوا وَأَسْلَمُوا مِنْ قَبْلُ مِمَّنْ نُهِيَ عَنْ طَرْدِهِمْ وَغَيْرُهُمْ، ذَلِكَ بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ يُؤْمِنُونَ يُفِيدُ وُقُوعَ الْإِيمَانِ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَا يُعَبَّرُ بِهِ عَمَّنْ آمَنُوا فِي الْمَاضِي إِلَّا بِضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ فِي الِاسْتِعْمَالِ- كَمَا يُعَبَّرُ بِالْمَاضِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ أَحْيَانًا لِنُكْتَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ- كَإِرَادَةِ تَصْوِيرِ مَا مَضَى كَأَنَّهُ وَاقِعٌ الْآنِ، أَوْ إِفَادَةِ مَا يَتْلُو ذَلِكَ الْمَاضِي مِنَ التَّجَدُّدِ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَلَا يَظْهَرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ظُهُورًا بَيِّنًا يُرَجِّحُ صَرْفَ الْفِعْلِ عَنْ أَصْلِ مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّعْبِيرُ عَنِ الشَّأْنِ، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ فِي الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ إِذَا كَانَ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ، وَيُرَجِّحُ الْأَصْلُ هُنَا تَطْبِيقَ السِّيَاقِ عَلَى حَالِ النَّاسِ فِي زَمَنِ نُزُولِ السُّورَةِ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِهَا الْآيَةُ، وَإِنَّنَا نُبَيِّنُ ذَلِكَ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْآيَاتِ أَتَمَّ الظُّهُورِ.كَانَ جُمْهُورُ النَّاسِ كَافِرِينَ، إِمَّا كَفْرُ جَحُودٍ وَعِنَادٍ، وَإِمَّا كُفْرُ جَهْلٍ وَتَقْلِيدٍ لِلْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَكَانَ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ الْأَفْرَادُ بَعْدَ الْأَفْرَادِ، وَكَانَ أَكْثَرُ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَالْفُقَرَاءِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكُونُ تَارَةً مَعَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُعَلِّمُهُمْ وَيُرْشِدُهُمْ، وَتَارَةً يَتَوَجَّهُ إِلَى أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ يَدْعُوهُمْ وَيُنْذِرُهُمْ، وَكَانَ الْمُعَانِدُونَ مِنْ كُبَرَائِهِمْ يَقْتَرِحُونَ عَلَيْهِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ لِلتَّعْجِيزِ، وَتَارَةً يُحَقِّرُونَ شَأْنَهُ بِوُجُودِهِ فِي عَامَّةِ أَوْقَاتِهِ مَعَ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَقَدِ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ طَرَدَهُمْ مِنْ حَضْرَتِهِ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا لِغَيْرِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم حَرِيصًا عَلَى إِيمَانِ أُولَئِكَ الْكُبَرَاءِ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَأَرْشَدَهُ رَبُّهُ جَلَّتْ حِكْمَتُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ الْقَوْلِيِّ الْأَخِيرِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى أَنْ يُبَيِّنَ لِمُقْتَرِحِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ مِنَ الْكُفَّارِ أَنَّ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ لَا تَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ قُدْرَةُ الرَّسُولِ وَعِلْمُهُ كَقُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَلْمِهِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ مِنَ الْآيَاتِ، وَبِأَنْ يُنْذِرَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْذَارًا خَاصًّا بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُرْجَى أَنْ يَنْتَفِعُوا بِكُلِّ إِنْذَارٍ، وَبِأَلَّا يَطْرُدَ مِنْ حَضْرَتِهِ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ، بِبَاعِثِ النِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْإِخْلَاصِ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى مُعَامَلَتِهِمُ الْأَوْلَى الَّتِي أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا فِي قَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [18: 28] فَبَعْدَ هَذَا الْإِرْشَادِ فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ حَسُنَ أَنْ يُرْشِدَ اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى شَيْءٍ فِي شَأْنِ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَجِيئُونَ الرَّسُولَ آنًا بَعْدَ آنٍ مُؤْمِنِينَ بِآيَاتِ اللهِ الْمُثْبِتَةِ لِلتَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ، فَيَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ مُذْعِنِينَ لِأَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ- وَهُمُ الَّذِينَ أَرَادَ رُؤَسَاءُ الْمُشْرِكِينَ تَنْفِيرَهُمْ وَحَاوَلُوا صَدَّهُمْ- فَأَمَرَهُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ أَنَّهُمْ صَارُوا فِي سَلَامٍ وَأَمَانٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَهُوَ لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ عَمِلَ بَعْدَهُ سُوءًا بِجَهَالَةٍ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَمْحُوَ أَثَرَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ، قَالَ: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} السَّلَامُ وَالسَّلَامَةُ مَصْدَرَانِ مِنَ الثُّلَاثِيِّ، يُقَالُ: سَلِمَ فَلَانُ مِنَ الْمَرَضِ أَوْ مِنَ الْبَلَاءِ سَلَامًا وَسَلَامَةً، وَمَعْنَاهُمَا الْبَرَاءَةُ وَالْعَافِيَةُ، وَالسَّلَامُ وَالْمُسَالَمَةُ مَصْدَرَانِ مِنَ الرُّبَاعِيِّ أَيْضًا، يُقَالُ: سَالَمَهُ أَيْ بَارَأَهُ وَتَارَكَهُ، وَمِنْهُ تَرْكُهُ الْحَرْبَ. وَالسَّلَامُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ نَقْصٍ، وَعَجْزٍ، وَفَنَاءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عُيُوبِ الْخَلْقِ وَضَعْفِهِمْ. وَاسْتُعْمِلَ السَّلَامُ فِي الْمُتَارَكَةِ وَفِي التَّحِيَّةِ مَعْرِفَةً وَنَكِرَةً، يُقَالُ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ بِالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَا يَسُوءُ، وَيُفِيدُ تَأْمِينَ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ أَذًى يَنَالُهُ مِنَ الْمُسْلِمِ، فَهُوَ آيَةُ الْمَوَدَّةِ وَالصَّفَاءِ، وَثَبَتَ فِي التَّنْزِيلِ أَنَّ السَّلَامَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُحَيِّيهِمْ بِهَا رَبُّهُمْ جَلَّ وَعَلَا، وَمَلَائِكَتُهُ الْكِرَامُ وَيُحَيِّي بِهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ تَحِيَّةُ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ السِّلْمِ وَالْمُسَالَمَةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [2: 208] وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا السَّلَامِ هُنَا: أَهْوَ تَحِيَّةٌ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِهَا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِهِ إِذَا جَاءُوهُ إِكْرَامًا خَاصًّا بِهِمْ مُخَالِفًا لِلْأَصْلِ الْعَامِّ- وَهُوَ كَوْنُ الْقَادِمِ هُوَ الَّذِي يُلْقِي السَّلَامَ- أَمْ هُوَ تَحِيَّةٌ مِنْهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ إِيَّاهَا عَنْهُ، أَمْ هُوَ إِخْبَارٌ عَنْهُ تَعَالَى بِسَلَامَتِهِمْ وَأَمْنِهِمْ مِنْ عِقَابِهِ، قَفَّى عَلَيْهِ بِبِشَارَتِهِمْ بِمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ؟ رُوِيَ الْأَوَّلُ عَنْ عِكْرِمَةَ فَهُوَ، خَاصٌّ بِمَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وَالثَّانِي عَنِ الْحَسَنِ، وَالثَّالِثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَظْهَرُهَا، وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى حُجَجِ اللهِ وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى آيَةِ النَّهْيِ {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}. إِلَخْ. وَالْآيَةُ الَّتِي بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضَةٌ بَيَّنَ فِيهَا ابْتِلَاءَ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَغْبَتَهُمْ فِي طَرْدِهِمْ.
|